الأحد، 17 مايو 2009

التحرير الحضاري..تحرير نفس


السلام عليكم و رحمة الله:
أثار انتباهي مقال الدكتور رفيق حبيب "متى يبدأ التحرير الحضاري؟" المنشور على موقع مدارك
http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1237705861928&pagename= Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout
لأنه يركز على قضية الاستقلال الحضاري في فترة التحرر الوطنية ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كان في خطب زعماءها "الملهمين"
كلام كثير عن الاستعمار و الامبريالية دون كلمة عن التحرير الحضاري.
المغلوب...طفل لم يكبر
حين نريد الحديث عن هذه الفكرة فإنه من الأفضل أن نبدأ من وقت سابق على لفترة التي ركز عليها الكاتب لتكون عندنا صورة أوضح عن الاستعمار الحضاري.
بدأ الاحتكاك بين الشرق و الغرب إثر الهجمة الأوروبية التي بدأت بحملة نابليون لينقسم المقاومون إلى فريقين؛فريق رأى في رفض علوم الغازي و ثقافته استقلالا حضاريا فرض عليه حالة من العزلة و فريق رأى أنه يجب أن يجلس من علماء الغازي موقف التلميذ من الأستاذ.
هنا بدأت مسيرة-كما يقول مالك بن نبي- أشبه بمسيرة الطفل الذي يبدأ وعيه منبهرا بالكبار و يقلدهم في صور ساذجة و سطحية ظنا منه أنه يصير مثلهم.
بالطبع يكون هذا الأمر محمودا حتى يكبر الطفل و يصير يافعا يعتمد على نفسه لكن ما بالك فيمن يظل على نفس سلوك الأطفال؟
إنه بالطبع طفل متأخر عقليا أو تحول من طفل إلى "طفيل" لا يستطيع العيش مستقلا عن أشياء الكبار و أفكارهم.
بيد أن هذا التأخر ليس عيبا ولدنا به كما هو حال الأطفال ,بل هي عقد نقص واضحة تتفق مع ما قاله ابن خلدون في تقليد المغلوب للغالب لأنه يظن فيه الكمال و القوة و إلا فلم غلبه؟
لكنه لا يعبأ تماما بكون أنه غُلب لأنه تخلى عن حضارته و قيمه و هي أساس قوته ليصير عبدا لسيف المستعمر و من بعده أفكاره و أشياءه.
روح القبعة
هكذا خرج الكثير من قادة الاستقلال و التحديث في بلادنا يلبسون الطرابيش بينما تلبس روحهم القبعة.
إذا أخذنا مصر كمثال ,سنرى عهد الحداثة في أيام محمد علي و ترسيخ ما أسماه محمدعبده بالتربية الأدبية التي تشبه بإنبات بذرة في غير تربتهاعلى حد تعبيره,فصار لمصر الكثير من الأشياء من مصانع و مدارس و غيرها لكنها لم توجد أفكارا و روحا و ثقافة,تقدمت الدولة ولم تتقدم الأمة, فحين انقطع المدد عن هذا الإصلاح الطفيلي في عهد عباس الأول رجع الأمر لما كان عليه.
ثم جاءت حركات التحرر الوطني بعد استحكام الاستعمار و بدلا من إعداد برنامج للإصلاح معد من أجل بلادنا ,نرى دائما في صدر المطالب إقامة برلمان على النسق الأوروبي يقوم على تصويت شعوب صاحبة معدلات قياسية في الجهل و الأمية تنساق وراء الشعارات و تدور في دوامة من الانفعال لا الفعل,
من المشاعر لا الأفكار,فتتصور أن أي مناورة من المستعمر انتصارا ساحقا كمعاهدة 1936 التي أبرمتها بريطانيا مع مصر تحسبا لاندلاع الحرب العالمية الثانية.
عقلية استعمارية لا تفلس
بعد الحرب العالميةالثانية و بدء التحرر من الاحتلال العسكري المباشر و بداية الحرب الباردة ,بدت المنطقة كما أشار الكاتب "كأنها" مستقلة.
لكنها في الواقع كانت تتعرض لاستعمار من نوع جديد؛فبدلا من الحديث عن دور الاستعمار في رقي المستعمرات و أبنائها الذين لا يستطيعون الاعتماد على أنفسهم, تحول الحديث إلى تنمية الدول النامية (المستعمرات سابقا) عن طريق المعونات الاقتصادية المباشرة للحكومات المستقطبة بين معسكري الشرق و الغرب. بدلا من عقلية القطن و الموز و الاحتلال الكامل و المندوب السامي حلت عقلية البترول و الغاز و القواعد العسكرية و الخبراء الأجانب.
انتشرت كذلك بعض مذاهب الغرب كالشيوعية و الوجودية و غيرها في الحقبة الناصرية و حوربت كل مظاهر الهوية المحلية,فتم تأميم الأزهر كما فعل محمد علي من قبل و ترسيخ تربية أدبية جديدة رمت الطربوش للأبد و صارت أسيرة ثقافة المستعمر رافعة شعار معارضة الإمبريالية و الاستعمار و الدعوة لعدم الانحياز.
إسرائيل...نتيجة تحولت إلى سبب
نتيجة لتراكمات التبعية الحضارية و السياسية و التآمر الاستعماري جثمت إسرائيل على أرضنا في عام 1948 و ظهر اهتمام حركات التحرر الوطني بالقضية خصوصا بعد ثورة يوليو...لكن على طريقتها.
تم النظر للقضية على أنها قضية استعمار عادية و ليس استعمارا محصنا بملايين المستوطنين كما أشار الكاتب,فقامت تلك الحركات بتجاهل البعد الحضاري و الديني و أبعدت التيار المنطلق من هذه الأبعاد الممثل في تيار المفتي أمين الحسيني و إسناد المقاومة لأصحاب أيدولوجية غربية تكافح الاستعمار المسلح معتنقة الاستعمار الحضاري لتبقى إسرائيل عقبة كؤود أمام التحرر الوطني الفعلي ليزيد تخريب حضارتنا التي صارت أطلالا من قبل و يُحرم ديننا من حق الدفاع عن وجوده وسط اصحاحات و وعود إلهية تُرفع بالباطل.
الأسلمة و عقدة النقص
اقتصر حديث الكاتب عن التبعية الحضارية على حركات التحرر الوطني انطلاقا من أحداث الحرب على غزة بينما إذا انطلقنا من العموم سنجد أن الإسلاميين كذلك لم يسلموا من هذا الأمر.
في الاقتصاد مثلا استطاع البعض أن يفصل بين الاشتراكية و حاضنها الإلحادي فيما سمي بالاشتراكية الإسلامية و من نفروا من هذا الحاضن ,اهتدوا إلى ما سُمي بالرأسمالية الإسلامية.
كان هذا محمودا بالطبع في بداية احتكاكنا بهذه النظم لكن الاقتصار عليها و عدم اعتبار خصوصياتنا الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية لا يختلف عن حركات التحرر الوطني التي فشلت في تطبيق الاشتراكية في سوريا أيام الوحدة مع مصر
و فشلت في جعل الاقتصادي الألماني "شاخت" ينجح في أندونيسيا كما نجح في ألمانيا الغربية.
قد نعزو هذا لكون الإسلاميين لم يتقلدواالحكم كما في حال الحركات الوطنية لكن حتى على مستوى التنظير لم يزل الأمر عالقا في الغال ببين الخيارين سالفي الذكر.
كذلك موجة الإعجاز العلمي جعلت الكيمياء و الفيزياء و غيرها – النسبية التي تتغير بتغير الأبحاث و الاكتشافات –تحكم بصحة المطلق القرآن و السنة الصحيحة لا العكس.
هذا يدل على عقدة نقص لأن هذا الخطاب صار موجها للمسلمين أكثر منه دعوة الغرب للإسلام باللغة التي يعرفها.
إن الطبيب المسلم الفذ لم يكن يتهالك أن يدلل على صدق النبي (ص) بحديث الحجامة و او حتى يبحث عن صدق حديث الذبابة ليثبت أن الإسلام من عند الله أو أن النبي (ص) لا يكذب.
هو يؤمن بدينه و لا يشعر بالدنية فيه و صار الإسلام الدافع له ليبدع و يبرع بعد مرحلة من التعلم من علوم اليونان و الفرس و الهند لتشب حضارتنا الغابرة و تصير لديها أفكارها و "أشياؤها" مما مكنها من النمو بشكل طبيعي و التحول من التبعية إلى المنافسة أو الدفع الذي يعمر الأرض و تحدث عنه القرآن الكريم.
تيار غزة...هل ينجح؟
مثلت حرب غزة ضربة قاصمة لبقايا جيل حركات التحرر الوطني القديمة لتجهز على ما تبقى من صورته التي تلقت ضربة قاصمة في عام 1967 و تؤذن ببداية جيل جديد يعي البعد الحضاري للصراع ضد الاستعمار المباشر و غير المباشر الذي تقوده الولايات المتحدة و إسرائيل في سائر بلداننا كما ذكر الكاتب باستثناء بعض أبناء هذه التيارات الذين فصلوا بين خلافهم الفكري و بين حركات المقاومة الإسلامية و بين دعم المقاومة سواء إعلاميا كحزب الكرامة ممثلا في زعيمه حمدين الصباحي أو حتى عسكريا كما هو الحال في اشتراك الجبهة الشعبية في المقاومة.
لكن هذه الكلمات ليست كافية,فيجب إذا على التيار الوليد أن يتجاوز مرحلة الطفولة ليبدع في إطار من روح الإسلام و حضارته إصلاحا و تنمية تراعي خصوصياتنا السابق ذكرها.
كذلك عليه التعامل بروح من الإخلاص وإنكار الذات مع الانقسام لذي يسود الأمة و ألا يختزل النجاة في ذاته لينكل بمخالفيه كما فعل من سبقه و نعود لعصر القادة الذين يبدون ملهمين.
الجدير بالذكر كذلك أن النهضة و التحريرالسياسي و الحضاري ليست مسؤولية
حركات المقاومة وحدها بل أيضا مسؤولية الشعوب التي يجب أن تفعل شيئا هذه المرة .
إن انفعال الأمة و خروجها في مسيرات تأييد حاشدة لهذا الجيل أيام حرب غزة مع استمرار عقدة النقص ليس كافيا حتى لا يتكرر نفس السيناريو السابق فنلبس العمامة و روحنا لم تخلع القبعات بعد.
فاليد العاملة و الجسد الصحيح و من قبلهم عقل يعي مهمته و رسالته من تقليد فمحاكاة فابتداع هو الذي سيشفي هذه الأمة من مرض الكلام.إن الحديث عن تطبيق عملي على مستوى الأمة لهذه الكلمات هو أكبر من المقال و من كاتبه لكن حسب كل منا أن يفعل ما يستطيع في محيطه و ينزع القبعة من على روحه.

التسميات: