الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

شيخ العرب همام..حين تثور هوارة!


حين تقرأ ملاحظة عابرة للشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه الشهير "تخليص الإبريز" أن مصر شهدت جمهورية التزامية مِثل تلك التي أرادها أنصار الحرية في فرنسا فلك أن تعجب!! وحين تعلم أنها كانت في الصعيد، ورئيسها هو شيخ العرب "همام" الهواري فربما تشعر بالفضول، ثم تنسى الأمر كله، لتفاجأ بعدها أن هناك مسلسلا تم تصويره عن ذات الشخصية، وأنه من بطولة الفنان يحيى الفخراني، فلا بد أن يسيطر عليك الفضول دون رجعة هذه المرة؛ لتعرف مَن هو الشيخ "همام"؟ وهل كان أول رئيس جمهورية مصرية؟

من هو "همام" الحقيقي؟!
ينتمي الشيخ "همام" لقبيلة "هوّارة" التي تنسب نفسها إلى الحسين رضي الله عنه، ووفدت إلى مصر من المغرب، واستقرت أولا في البحيرة، ثم ثاروا في عهد السلطان "برقوق" المملوكي، فكسر شوكتهم ونفاهم إلى الصعيد؛ حيث لم تنقطع ثوراتهم المتكررة. أما في العهد العثماني، فقد اقتصر العرب على الثورة؛ للتهرّب من أداء الأعباء المادية المفروضة عليهم من الدولة، دون أن يكون الغرض هو الانفصال عن الدولة العثمانية. كذلك تحوّلت علاقتهم بالمماليك من العداء التام، إلى إيواء بعض الفارين منهم، ومساعدتهم لاسترجاع نفوذهم المفقود في القاهرة مقابل بعض الامتيازات، وإن كان هذا لا يمنع وقوع منافسة بين الهوّارة والمماليك على الأراضي الزراعية، والحصول على حق الالتزام عنها (وهو باختصار يقضي بدفع الملتزم مبالغ معينة للدولة على مساحات محددة من الأراضي مقابل جمع الضرائب من الفلاحين، والاحتفاظ بفائض هذه الضرائب كأرباح لهم)، أو الثورة وعدم تقديم المال والغلال المطلوبة لوالي جرجا المملوكي الذي اتّسعت ولايته لتشمل الصعيد كله، وبالتالي يتعلّق مستقبله بعلاقته بقبائل العرب، خاصة قبيلة "الهوّارة".

شيخ العرب
وسط معادلة موازين القوة المعقّدة هذه وُلِد الشيخ "همام بن يوسف" في قرية "فرشوط" في محافظة قنا لأسرة واسعة الثراء والنفوذ هي الأسرة الهمامية، اشتُهر بالكرم ورعايته للعلماء وعلاقته المتميّزة بالفلاحين وحمايته لهم من غارات العربان.

ورث عن والده وجدّه القوة والنفوذ كأحد أبرز الملتزمين من هوارة؛ فورث زعامة قبيلته، وتلك الأراضي الشاسعة الممتدة من المنيا إلى أسوان. لكنه لم يكتفِ بالأراضي التي ورثها، بل قام بتوسعة نطاق أملاكه على حساب بعض القبائل الأخرى ومماليك رأوا أنهم لا يستطيعون أن يقفوا أمام شيخ العرب، الذي تمتع بعلاقات طيبة مع العديد من الأمراء المماليك، وتدخّل أكثر من مرة في الخلافات والمنازعات بين العصبيات المملوكية، دون أن يدري أن هذا الأمر كفيل بأن يقلب حالته رأسا على عقب.

تجاوز الخطوط الحمراء
قام الشيخ "همام" بما اعتبره بعض المماليك تجاوز بعض الخطوط الحمراء، باقتراض أموال من "إبراهيم جاويش" المملوكي؛ حيث اشتُرط أنه إذا لم يتمكّن شيخ العرب من السداد أن يتنازل لـ"جاويش" عن أراضيه بنواحي برديس.

لكن الأمر لم يكن أكثر من مجرد تحدٍّ من الأمير "همام"، بأن امتنع عمدا عن سداد مال ربما لم يكن في حاجة إليه؛ للضغط على الأمير "إبراهيم" بأن يترك له بعض الأراضي القريبة من دائرة نفوذ "همام"، وقد أيد "همام" في هذا الأمير "عثمان الفقاري".

فتسبب "همام" في حدوث فتنة بين الأميرين انتهت بانتصار "إبراهيم جاويش"، لكنه طبقا لمقتضيات الواقع تنازل لأحد أقرباء الشيخ "همام" عن الأراضي الواقعة ناحيتي "سمهود" و"خلجان" اعترافا منه بنفوذ هوارة القوي في الصعيد.

لكن كان لـ"إبراهيم بك" تابع تعلّم جيّدا من الدرس، وأضمر في نفسه أن يتخلّص من كل مراكز القوى، وبهذه العزيمة بدأ "علي بك" مشواره الطموح.

الجولة الأولى
ظهر "علي بك الكبير" على مسرح الأحداث بعد وفاة أستاذه "إبراهيم جاويش"، واستطاع بذكائه أن يوقع بين منافسيه على منصب مشيخة البلد واحدا بعد الآخر، وحاول الإيقاع بين "حسين بك كشكش" و"صالح بك القاسمي" بتعيين الأول حاكما لـ"جرجا" بدلا من الثاني الذي أمر بنفيه إلى رشيد ثم إلى دمياط، لكن الأخير لجأ إلى المنيا عند حليفه "همام"، الذي ظهر كحجر عثرة في وجه مخطّطات "علي بك الكبير"، فاستطاع أن يهزم الحملة التي أرسلها "حسين بك كشكش"، ثم أخيرا تحالف الاثنان؛ "صالح" و"حسين"، فاستطاعا هزيمة "علي بك"، ونفيه إلى الشام، فاستعاد الأول ولاية "جرجا"، وسيطر الثاني على القاهرة.

الجولة الثانية
لكن "علي بك" لم يستسلم، وعاد إلى القاهرة متظاهرا بالندم والتوبة، فانخدع خصومه فيه وولّوه حكم منطقة بعيدة عن القاهرة ليأمنوه، لكنه عاد للتمرّد مرة أخرى، فتم نفيه أخيرا إلى المنيا ليجد نفسه مضطرا للتحالف مع عدوه القديم "صالح بك"، وذلك الشيخ الهواري "همام" الذي تمتد قوته في الصعيد بأهله وعشيرته عدة قرون. أدرك الشيخ "همام" بثاقب نظره أن "علي بك" يمتلك من العزيمة والقوة ما يمكنه من تحقيق أحلامه، فتوسط بينه وبين "صالح بك"؛ ليساعده على استرجاع نفوذه في القاهرة، مقابل أن يضمن "علي بك" ولاية "جرجا" مدى الحياة لـ"صالح بك القاسمي"، ومن ثم توطيد نفوذ "همام" مدى الحياة كذلك.

وعندما انتصر "علي بك" على أعدائه في شمال بني سويف وتخلّص من "حسين كشكش" وأعوانه، اعتقد حليفه الهواري أن المعركة انتهت، لكن لم يكن يدري أنه كان بصدد معركة أخرى.

مراوغة
حين نجح "علي بك" في خداع "صالح بك القاسمي" واستدراجه لاجتماع في القاهرة ثم أغرى بعض أتباع "القاسمي" باغتياله، أيقن الشيخ "همام" أن الدور قادم عليه، لكنه لم يشأ أن يبدأ بالصدام مباشرة، وأن يراوغ خصمه، فوافق على الاكتفاء بأرضه في قنا وأسوان فحسب دون الصعيد كله، وتنازل عن التزامه هدية لقائد "علي بك" وهو "محمد أبي الذهب" رغبة في استمالة الأخير؛ ليثني سيده عن القضاء على "همام"، بعد أن انفرد "علي بك" بالسلطة في القاهرة، وأقصى كل منافسيه. لكن "علي بك" لم يكتفِ بهذا النصر المبدئي؛ فطلب من شيخ العرب أن يطرد المماليك الفارين عنده إثباتا لحُسن النية، فأدرك "همام" أن المعركة لا مفرّ منها، وكان عليه أن يخوض معركة أخيرة.

نفرة الهواري الأخيرة
اتفق "همام" مع الأمراء المماليك عنده على الهجوم على أسيوط وانتزاعها تمهيدا لنزول القاهرة والقضاء على "علي بك"؛ فأمدّهم بالرجال والأموال والذخائر، وقد تكلل مسعاهم فعلا بالنجاح وسيطروا على أسيوط.

بدا عندئذ لـ"علي بك" أن الموقف بلغ ذروته، وأن معركته مع "همام" هي التي ستحدد مستقبل نفوذه في مصر، فلم يدّخر جهدا في إرسال جيش ضخم لمعاونة جيش "أيوب بك" (واليه الجديد على جرجا)، واستعان بالمرتزقة إلى جانب جيش لـ"خليل بك" و"محمد بك أبي الذهب"، فتقابل الفريقان أمام أسيوط وكان النصر حليفا لـ"علي بك"؛ بسبب خبرة جنوده ووفرة عددهم، ثم أصدر قرارا لـ"أبي الذهب" بالتوجّه رأسا إلى "فرشوط" للقضاء على شيخ العرب نهائيا.

وزيادة في الاحتياط لجأ "علي بك" إلى سلاحه المفضّل وهو الخيانة، فأغرى ابن عم همام وهو "إسماعيل أبو عبد الله" بخيانة قريبه والانسحاب برجاله، ويبدو أن شيخ العرب كان يثق في ابن عمه هذا كثيرا، فزادت الخيانة من هم شيخ العرب، فترك عاصمته "فرشوط" ومات مقهورا في قرية "قمولة".

وبهذا انتهت سيرة شيخ العرب "همام"، وقبل أن يُسدل الستار على هذه النهاية الحزينة، نرى "محمد بك أبا الذهب" وهو يدخل "فرشوط" وينهبها، ثم يصطحب "درويش" ابن همام معه إلى القاهرة؛ لتوفيق أوضاع الهوارة في مرحلة ما بعد "همام"، لينتهي فصل زاهر من حياة الصعيد حفل بالأمن والرخاء.

هل كانت جمهورية؟
أعتقد في نهاية المقال أن وصف "الطهطاوي" ومن بعده لويس عوض لم يكن موضوعيا ودقيقا؛ لأننا رأينا أن "همام" لم يستقلّ بالصعيد ويحكمه، لكنه مجرد رجل نافذ واسع الثراء نال التزام أراضيه بموافقة الدولة ورضاها، ويدل على هذا الحجج الصادرة بحقه في تولّي الالتزام عن تلك الأراضي، أما احتياجه لجيش من الموظفين والمباشرين فذلك لاتساع أعماله، وأما ما يخصّ مجالسه واستماعه لمشورة أهله وشكاوى الفلاحين فذلك راجع إلى الأعراف والتقاليد القَبَلية، لا لقيم جمهورية لا يفهمها الشيخ "همام" ولا قبيلته. حتى حين أراد الثورة على "علي بك"، كانت وسيلته هي مساعدة أمراء مماليك منافسين لا إعلان الاستقلال عن القاهرة أو عن السلطان العثماني.

وقبل أن ننهي المقال دعونا نستمع إلى ذلك الموّال الذين ينعي نهب "فرشوط" وقصر شيخها المهزوم:


هيــاك يا باب هيـــاك بس ضبتك غيّروها

تسعين أوضة وشباك في تلايلك كسّروها

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية