الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

عالم بلا فقر...فلنقم بذلك إذا

في عام 1974 عاد "محمد يونس" -الأستاذ المساعد في جامعة "ميدل تنيسي" الأمريكية- إلى بنجلاديش على خلفية استقلال بلاده، تلخّص حلمه في المجال الأكاديمي كأي أستاذ جامعة، وتسلّم عمله في قسم الاقتصاد في جامعة "تشيتاجونج" غير عالم أنه سيترك كرسيه بعد المجاعة الشهيرة التي ضربت بنجلاديش في بداية عودته إلى الوطن، ليعلن الحرب على الفقر، لكن هذه المرة وسط الفقراء.


27 دولارا!
في قرية "جوبرا" عرف "يونس" أبعاد الفقر وأسبابه، فمن خلال معرفته بسيدة تُدعى "صوفيا" أدرك الكثير عن حرفة صناعة كراسي البامبو الخشبية، واستغلال العاملين في هذه الصناعة من المقرضين المحليين؛ بحيث تقترض السيدات ثمن البامبو مقابل بيعه للمقرض بالثمن الذي يحدده، ببحث موسّع اكتشف "يونس" أن هناك 42 سيدة تعانين نفس المشكلة، فقرّر دفع ديونهن كاملة من جيبه، وكانت 27 دولارا فقط لا غير!


هنا شعر "يونس" أن بإمكانه أن يخطو خطوة أخرى، وهي محاولة إقناع بنك محلي بإقراض الفقراء، لكنه وُوجه بحقيقة قاسية.


الأموال لمن يملك الأموال!
ببساطة كانت هذه هي القاعدة التي قرّرت أن الفقراء ليست لديهم ضمانات للقروض، ومن ثم لا يمكن الثقة في أنهم سيسدّدون ديونهم، وحين تحايل "يونس" على الإجراءات وضمنهم بنفسه، كانت النتيجة انتظاما دائما في السداد، وكانت مكافأتهم هي الإصرار على ذات القاعدة، الأموال لمن يملك الأموال! وكانت تلك البداية للائتمان متناهي الصغر.


بنك الفقراء
في عام 1977 تحمّس السيد "أنيسو زمان" -مدير أحد المصارف المحلية- لأفكار "يونس" وتلامذته، فقام بتخصيص فرع لبنكه في "جوبرا"، وأسماه بنك "جرامين" (أي بنك القرية)، وتمتع بذات النسبة العالية لتسديد القروض.


تم بعد ذلك إنشاء أكثر من شركة تابعة لـ"جرامين" تعمل في مجال تصدير الأقمشة المحلية والاتصالات والرعاية الصحية، كلها موجّهة للفقراء وتوفر فرص عمل لهم.


تقوم فلسفة "جرامين" على أن الفقراء لديهم جدارة ائتمانية، وأن الإنسان يمكنه أن يساعد في حل مشكلة الفقر، داخل نظام السوق الذي يجب أن ينظر للناس على أنهم ليسوا ذوي جانب واحد فقط هو تعظيم الربح، لكن هناك ميول إنسانية نبيلة تدفعه لمحاربة الفقر عن طريق تحويل الفقراء إلى أشخاص منتجين، مهما كانت ظروفهم، ومهما كانوا في دولة فقيرة منكوبة كبنجلاديش.


كذلك الإيمان بأن التنمية ليست نتاج تراكم رأس المال المادي فحسب، بل من خلال إطلاق ملكات الفقراء للابتكار، والتي نمت ونضجت في مدرسة الفقر الصعبة، خاصة النساء اللاتي لديهن شعور بالمسئولية تجاه عائلاتهن، أكثر من الرجال الذين قد يميل بعضهم لإنفاق دخله على متعه الخاصة.


إن التنمية يجب أن تشمل الأطفال، وأن ينعكس التحسّن في الدخل على مستوى تعليمهم، ومن ثم تربية جيل جديد أفضل مما قبله، ولديه فرص أكثر للتنمية... كل هذا يحدث في بنجلاديش؛ البلد الذي يعاني فقرا مدقعا، ومجاعات، وفيضانات تجلب الكوارث من وقت لآخر، إنه التأكيد على أن العوائق المحيطة بالبشر قد تؤثر فيهم، لكنها أبدا لا تسجنهم.


مجتمع "جرامين"
الاقتراض في "جرامين" يتم من خلال مجموعات من خمسة أفراد، ويهدف لخلق ترابط اجتماعي بين الفقراء وشعورهم بالانتماء لفريق لا يريدون أن يخذلوه حين يخفقون في تسديد أقساط الديون بانتظام.


كذلك القرارات التي يتعهد بها كل مقترضي "جرامين"، والتي تشمل تعليم أبنائهم بتشجيع من "جرامين" التي تمنح ما يزيد على 30000 منحة تعليم كل عام.


التعامل المباشر بين موظفي البنك وبين المقترضين -والذي تم السخرية منه من قبل بوصفه "مجالسة أطفال"- يتيح للبنك الوقوف على أخطائه، ومحاولة ابتكار النظم الاقتصادية التي تتوافق مع ظروف الفقراء، بدلا من التعامل مع الفقراء على أنهم أشياء لا يُحسب لها رد فعل، وطبقا لهذا المبدأ ظهرت النسخة الثانية المطوّرة من بنك "جرامين" بعد فيضان 1998 المدمّر، والذي كان وقفة لالتقاط الأنفاس وتقديم كشف الحساب.


"جرامين 2"
راعى "جرامين 2" الفروق بين شرائح الفقراء، بطرح نظم اقتراض مختلفة تصل إلى قرض دون فائدة للمتسوّلين الذين يتحولون إلى باعة متجولين بدلا من التسوّل، وقد انتظم في هذا النظام حوالي 10000 شخص توقّفوا عن التسول بالفعل، كذلك تم إنشاء صناديق ادّخارية تدرّ أرباحا على مدّخرات الفقراء الصغيرة فيصبح بنك "جرامين" بنكا من الفقراء وإليهم، وفي عام 2006 تم توزيع 20 مليون دولار كأرباح لبنك "جرامين" لأول مرة بعد التخلص من القيود الحكومية.


وكانت "جرامين" على موعد مع مشروع جديد.


المشروع الاجتماعي
ببساطة هو مشروع غير هادف للربح، لكنه يردّ رأس المال إلى أصحابه بعد فترة معينة من العمل، ويحتفظ لهم بحق الإدارة التي يجب أن تكون محترفة كالشركات العالمية، بينما يتم توجيه الأرباح إلى توسعة المشروع وزيادة جودة منتجاته.


ميزة هذا المشروع عن مشروعات الدول المانحة لمكافحة الفقر أنه يقوم بدراسة عميقة للواقع وللإمكانيات المتاحة، بدلا من إنفاق الأموال على النواحي الإدارية، والمستشارين، والخبراء، والأجهزة، وتدريب العمال على مهن ربما لا تكون مناسبة لهم أو لميولهم، ويكون المرتب الشهري هو الدليل الوحيد على انتشال الفرد من حالة الفقر.


هو مشروع من الفقراء وإليهم، ولا يهدف إلى تحقيق ربح يؤثّر على سعر المنتج؛ فلا يكون بعيدا عن أيدي الفقراء المستهدفين من المنتج بالأساس، ولا يستورد مستلزمات الإنتاج من الخارج، بينما يمكنه إفادة مورّدين محليين، ويعتمد على شبكة توزيع محلية من سيدات "جرامين".


ربما تعتقد أن المشروع مجرد خيال، لكن العالم شهد أول مشروع اجتماعي في بنجلاديش هو "جرامين-دانون" في عام 2006 لإنتاج الزبادي لأطفال بنجلاديش الفقراء، ولا يزال "يونس" يأمل أن يوجد في العالم من يمتلك إرادة السيد "فرانك ريبو" -رئيس مجلس إدارة دانون- ليوجّه أمواله إلى مشروع اجتماعي، يحلم "يونس" بكثير من الرجال كـ"ريبو"، يمدّون أيديهم ليصافحوا "يونس" قائلين: "فلنقُمْ بذلك إذن!".

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية