الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

تخليص الإبريز في تلخيص باريس..فرنسا بين دفتي كتاب


قليلة هي الكتب التي تُخلّد في ذاكرتنا، وتجعلنا نشعر كلما أعدنا قراءتها أننا أمام عبقرية نادرة لا تهتزّ صورتها مع الزمن.


ففي عصر كان السفر فيه بشِق الأنفس، وانقسم العالم إلى شرق وغرب يفصل بينهما خنادق الحرب وأسوار القلاع، مثّلت بعثات محمد علي التعليمية حدثا نادرا.

ربما لأول مرة في القرن التاسع عشر تكون العلاقة بين الشرق والغرب علاقة تعلّم ومعرفة، وبدلا من سيرة الحروب والمعارك التي واكبت الهجمة الاستعمارية الأوروبية الحديثة، يأتي شيخ أزهري ليضع باريس بحضارتها وثقافتها وعادات أهلها بين دفتي كتاب.

فرفاعة الطهطاوي الأزهري حتى النخاع، الذي وُلد في أوائل القرن التاسع عشر لم يكن يتوقع -وهو واعظ العساكر الجهادية في عهد محمد علي باشا- أنه سيتم اختياره ليصاحب الأفندية المبعوثين إلى فرنسا.

وبنصيحة من شيخه حسن العطار شرع "الطهطاوي" في كتابة كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"؛ ليكون نافعا في كشف القناع عن محيا هذه البقاع، وليبقى دليلا يهتدي به إلى السفر إليها -أي باريس- طلاب الأسفار؛ على حد تعبير "الطهطاوي".

الله.. ثم وليّ النعم!
بدأ "الطهطاوي" كتابه بالأسلوب المعتاد في المقدمة بالتسبيح بحمد الله والثناء عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم لله بكل عمل طيب في هذا الكتاب، ثم الثناء الطويل على "حضرة أفندينا وليّ النعم، عظيم الشيم، الحاج محمد علي باشا"، وهي الخطبة التي تدلّنا على ارتباط مشروع التحديث بالسلطة وبالوالي المتحمّس على وجه التحديد، وهو الارتباط الذي سيبقي عليه "الطهطاوي" دائما، حتى وهو يستنكر الاستبداد، ويعزو إليه ضياع الأمم، دون أن يشير ولو بكلمة واحدة إلى استبداد الباشا الألباني!.

على الطريقة "الخلدونية"
بحديث مشابه للعلّامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة افتتح "الطهطاوي" حديثه عن تصنيفه للأمم والبلدان من أقصى الشرق حتى أمريكا؛ ذلك العالَم الجديد، بعدها تحدّث عن سبب توجّههم إلى فرنسا دون سائر الممالك الأوروبية، واحتياج الدولة المصرية للعلم والمعرفة كسبك المعادن والميكانيكا وفنّ الرمي بالمدافع والطباعة وغيرها؛ وهي العلوم التي كانت تمثّل للمصريين عالما مجهولا ينبغي أن تُقطع من أجل تحصيله البحار، وتُحتمل الغربة عن الأهل والوطن.
بداية الرحلة
بدأ "الطهطاوي" شرْح رحلته بذات الأسلوب السائد في هذه الفترة من السجع المتكلّف أحيانا، وكثير من الأشعار متوسطة المستوى، مبديا ملاحظاته على سفره من القاهرة إلى الإسكندرية -ولا ينسى الحديث عن تاريخها بإيجاز- ثم ركوبه البحر في سفينة حرب فرنسية إلى مارسيليا، ومن شدة خوفه من دوار البحر عمل بنصيحة أحد العلماء الذين سافروا إلى إسطنبول بجرْع بعض من الماء المالح، فكان نتيجة ذلك أنه أُصيب بالحمى! لكن شفاءه بعد ذلك عند تحرك السفينة جعله يؤمن بنجاح الوصفة.

روى أيضا دخوله إلى مارسيليا، وطقوس دخولها بداية بـ"الكرنتينة" أو الحجر الصحي؛ للتأكد من خلو المسافرين من الأمراض، والجدل الشرعي الذي قام بين بعض المشايخ حولها، فاحتجّ أحدهم بالقرآن والسنة في إباحة "الكرنتينة"، بل بوجوبها، بينما حرّمها آخر، واعتبرها فرارا من قضاء الله!.

شهدت "الكرنتينة" -التي كانت تشبه مدينة صغيرة حسب وصف "الطهطاوي"- احتكاكه بطراز الحياة الفرنسية، وآداب المائدة من الجلوس على الكراسي والأكل على المناضد أو "الطبليات العالية" كما سماها، واستخدام الملاعق والشوك، ويصف للمصريين من خلال كتابه -الشبيه بصندوق الدنيا- عادات المائدة وأدوات المطبخ الفرنسي، ثم السفر وهيئته حتى وصوله باريس.

باريس
استهلّ "الطهطاوي" حديثه عن باريس بذكر التوقيتات وفروقها بين البلدان من باريس إلى مدريد وبكين، ثم وصف باريس؛ طرقها ومبانيها، ونظام دخول المياه إليها، ومناخها، فيتحسّر عندها على مصر التي هي أفضل مناخا من باريس، وتستحق المكانة العالية التي بلغتها باريس التي تصير أشجارها في الشتاء قرعة رديئة المنظر كأنها حطب مصلب! وينطلق بقصيدة تصف مصر وتتغنى بها!

أهل باريس
امتاز وصف "الطهطاوي" لأهل باريس بالدقة الشديدة التي قد تبدو لنا مملة هذه الأيام، لكنها بالنسبة لمن قرأها من حوالي 180 عاما أشبه بتفاصيل عالم ساحر، يجد القارئ فيه نفسه يجلس في مقاهي فرنسا يلتمس الدفء في ليالي الشتاء، ويستمع لأدبائها وشعرائها في حديثهم عن النساء، ثم يأكل معهم خبزهم المخصوص، وأغذيتهم المختلفة في مطاعمهم، ويتجول في منازلهم المبلطة بالخشب، ومتنزهاتهم وحدائقها والمعامل والمتاحف والصحف أو "الكازيطات" كما سماها، حتى الوصفات الطبية والوقاية من الأمراض المعروفة في ذلك الوقت، والتحذير من بعض العادات الشائعة المضرّة بالمريض... كل ذلك كان لها مكان في كتاب "الطهطاوي".

تتعرف كذلك على مزاجهم وطريقة تفكيرهم من تغليب المنطق على الدين، والاقتصار على التفكير العقلي لتمييز الخطأ من الصواب، وهو ما ينكره عليهم "الطهطاوي"، كما ينكر عليهم تحرّرهم وشربهم للخمر؛ محاولا وسط تلك التفاصيل الغريبة والساحرة لقرائه أن ينبّه بني قومه إلى سلبيات الغرب التي يجب اجتنابها، وهو المنهج الذي اعتمد عليه الكثير من العلماء المصلحين فيما بعد.

حديث السياسة
لم يقتصر الكتاب على أحاديث الرحّالة أو على مذكراته كطالب، واهتمام الوالي بهم وبتحصيلهم العلمي والتعرف على مستواهم أولا بأول، لكن "الطهطاوي" كان حريصا على أن ينقل للقرّاء النظام السياسي للمملكة الفرنسية؛ بما فيه من الحديث عن مجالسها النيابية ونظام الضرائب المريح فيها، ووصل به الاهتمام إلى أنه ترجم مقاطع من الدستور الفرنسي وناقشها، منددا بالاستبداد، ودوره في خراب الأمم.

ثم يتطرق للحديث عن الثورة الفرنسية التي حدثت في عام 1830 أثناء وجوده في باريس، والنزاع بين من أسماهم "الملكييين" و"الحريين"، والوقائع التي جرت بينهما في الشوارع والمعسكرات، وانتهت بخَلع الملك ووزرائه الذين حاربوا حرية التعبير في الصحف، وأرادوا إطلاق الملك في التصرف كما كان في الماضي.

ويشرح مواقف أنصار الملكية وأنصار الحرية في فرنسا، وذلك الجدل الذي كان يدور فيها، بينما كان ذلك الباشا الألباني جاثما على صدر مصر التي رفعته مكانا عليا، فصيّر نفسه فيها وليا للنعم!!

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية